نشأة الفارابي
وُلد أبو نصر محمد بن محمد بن ترهان بن أوزلاغ الفارابي التركي في عام 870 ميلادي في مدينة فراب، المعروفة اليوم باسم أوترار. تقع هذه المدينة على ضفاف نهر أريس الذي يتدفق نحو نهر سير داريا، في المنطقة المعروفة حاليًا بأوتارارسكي في شرق كازاخستان. وقد تميزت مدينة فراب بمكانتها المرموقة خلال القرنين التاسع والعاشر، إذ كانت مركزًا سياسيًا وثقافيًا وتجاريًا هاما، بالإضافة إلى كونها نقطة التقاء لطرق قوافل طريق الحرير الذي ربط أوروبا بآسيا.
يعتبر الفارابي من أبرز الفلاسفة المسلمين، وقد لقب بأعظم سلطة فلسفية بعد أرسطو. يُذكر أنه قضى جزءًا من شبابه في بغداد، ثم انتقل إلى مصر، وفي عام 943 ميلادي انتقل إلى سوريا واستقر في دمشق حتى وفاته في 950 ميلادي. ومع ذلك، تتنوع المصادر حول مسقط رأسه بين تركمنستان وكازاخستان، والسبب في هذا التباين هو وجود أماكن متعددة تحمل اسم فراب في آسيا الوسطى، مثل خراسان وكازاخستان الحديثة وتركمنستان وأفغانستان، المعروفة باسم خراسان الكبرى. يتم استخدام المصطلح الفارسي “باراب” أو “فاراب” لوصف الأراضي المروية بواسطة تحويل مياه الأنهار.
احتل أبو نصر الفارابي عام 870 ميلادي في مدينة فراب، واختلفت آراء الباحثين بشأن جذوره العرقية، بالإضافة إلى تحديد مكان ولادته؛ ويرجع هذا الاختلاف إلى وجود أكثر من مكان يحمل اسم “فراب” في آسيا الوسطى.
التعليم والمعرفة
يعتبر الفارابي قد نهل علمه في أوترار حتى بلوغ العشرين من عمره، حيث بدأ قراءة الأعمال الفلسفية والعلمية في مكتبة أوترار التي كانت تعد من أغنى المكتبات في العالم بعد مكتبة الإسكندرية، وذلك بالنسبة لعدد الكتب والنسخ المتاحة. ثم استكمل دراسته وعمله في بخارى وسمرقند قبل أن يصل إلى بغداد، التي كانت آنذاك مركز الخلافة العربية والثقافة والسياسة. جدير بالذكر أن التراث الفلسفي الأرسطي قد أثر بشكل كبير على فلسفة الفارابي خلال إقامته في بغداد في القرن العاشر.
حياة الفارابي
ما يُعرف عن حياة الفارابي قليل نسبةً لشهرته الواسعة عبر العصور. هناك جدل حول أصله العرقي بين المؤرخين، لكن الأكيد أنه انتقل من آسيا الوسطى إلى بغداد، حيث قضى معظم حياته وكتب العديد من مؤلفاته هناك، دون أن يتولى أية مناصب إدارية أو قضائية. في عام 942 ميلادي، انتقل إلى بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، واستقر فيها. يُذكر أنه درس في بيزنطة بسبب اهتمامه باللغة والفكر اليوناني، وكرّس جزءًا كبيرًا من حياته للتدريس والكتابة في بغداد قبل مغادرتها بسبب الاضطرابات السياسية.
تشير سيرته الذاتية إلى أنه درس الطب والمنطق وعلم الاجتماع لتحليل كتابات أرسطو، كما درس أيضًا في تطوان بالمغرب، ومن بين أساتذته كان ابن حيلان النسطوري، الذي كان من رجال الدين في بغداد.
وفاته
قضى الفارابي السنوات الثماني الأخيرة من حياته متنقلًا بين القاهرة وحلب ودمشق، حيث حظي بتقدير واسع، خاصة من سيف الدولة الحمداني الذي كان الداعم له. توفي في ديسمبر عام 950 ميلادي، أو في يناير عام 951 ميلادي.
الفارابي ومساهماته الفلسفية
لقب الفارابي بـ “المعلم الثاني” بعد أرسطو، مكتسبًا ذلك اللقب نظرًا لكونه من رواد الفلسفة المشائية في الشرق. وقد ساعده اطلاعه على أعمال أرسطو وأفلاطون وكبار الفلاسفة القدماء بلغاتهم الأصلية، حيث كان مهتمًا بالفلسفة والمنطق. يُعتبر أيضًا مؤسس الفلسفة في الإسلام، على الرغم من وجود أعلام بارزين قبله مثل الرازي والكندي. لقد أصبح الفارابي أول فيلسوف يحظى باحترام دون شروط في عصره، وكان له تأثير كبير على ابن سينا وابن ميمون وابن رشد، الذين استندوا إلى مؤلفاته وعبّروا عن إعجابهم بها. ترك الفارابي وراءه عددًا كبيرًا من المقالات في مجالات الفلسفة، والطب، والرياضيات، والمنطق، والسياسة، والموسيقى، مما أهله لاستحقاق لقب المعلم الثاني من خلال إسهاماته القيمة.
إرث الفارابي الكتابي
خلف الفارابي تراثًا علميًا هائلًا يقارب 200 رسالة في مجالات متنوعة من المعرفة. وقد علّق على العديد من مؤلفات أرسطو، مثل التأويلات والموضوعات والتحليلات بجزأيها الأول والثاني، والتفنيد السفسطائي، والأورغانون، بالإضافة إلى أعمال لمفكرين وفلاسفة قدامى. من بين أبرز أعمال الفارابي “لآلئ الحكمة”، و”أفكار مواطني المدينة الفاضلة”، و”الرسائل الفلسفية”، و”الكتاب الكبير في الموسيقى”، التي تُرجمت إلى اللاتينية والعبرية في القرون الوسطى، خاصة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
ترجم العالم الفرنسي إرلانجن الجزء الأول من الكتاب الكبير في الموسيقى إلى اللغة الفرنسية بين عامي 1930-1932، الذي يُعتبر من أهم الكتب الموسيقية في العصور الوسطى في العالم الإسلامي، ويحتوي أيضًا على أقسام تتعلق بالفلسفة. ولذلك، فإن مؤلفات الفارابي ساهمت في ربط الثقافات والفلسفات الشرقية والغربية خلال فترة النهضة الأوروبية، مما جعل اسمه خالداً في تاريخ العلوم والثقافة العالمية.
يرى الفارابي أن الفيلسوف يجب أن يكون قائدًا للدولة كونه أكمل أنواع البشر. ويعتبر أن السبب الرئيسي للمشكلات السياسية هو انفصال الفيلسوف عن الحكومة، ولهذا كان الجزء الأكبر من كتاباته مشُغولاً بقضية التنظيم السليم للدولة. كما أن نظام الفارابي في مؤلفاته الأخرى يعتمد على:
- المنطق: رغم أنّ الفارابي استند إلى أرسطو في مجالات المنطق، إلا أنه أضاف عناصر جديدة، حيث ناقش أشكال الاستدلال غير الأرسطية، وأفكار الوحدات المستقبلية، والعلاقة بين المنطق وقواعده. يُنسب إليه تصنيف المنطق إلى فئتين؛ الفكرة والإثبات.
- الموسيقى: بالإضافة إلى “الكتاب الكبير في الموسيقى” الذي يُعتبر من أبرز مؤلفاته، حيث عرض المبادئ الفلسفية للموسيقى وتأثيراتها، كتب الفارابي أيضًا رسالة تناقش استخدام الموسيقى كعلاج وتأثيرها على الروح.
- الفيزياء: تناول الفارابي طبيعة الفضاء، وكتب أطروحة قصيرة عن ذلك، إذ استنتج أن الهواء يمكن أن يتمدد لملء الفراغ المتاح.
- الفلسفة: تُعبر الأعمال الفلسفية للفارابي عن مدرسته الخاصة في الفكر الإسلامي، المعروفة باسم الفارابية، والتي تختلف عن فلسفة أفلاطون وأرسطو، حيث تنتقل من الميتافيزيقا إلى المنهجية.
- علم النفس: كتب الفارابي أطروحات تتعلق بعلم النفس الاجتماعي، موضحًا أهمية مساعدة الآخرين للفرد في تحقيق الكمال البشري.
بدأ الفارابي مسيرته التعليمية في مدينة أوترار حيث استفاد من مكتبتها الضخمة، التي كانت مصدرًا رئيسيًا لمعرفته الفلسفية والعلمية، مُطلعًا على مؤلفات الفلاسفة القدامى، مما ساعده على تشكيل مدرسته الفكرية الخاصة المعروفة باسم الفارابية، وقد أُطلق عليه لقب المعلم الثاني بعد أرسطو تقديرًا لإسهاماته في العديد من المجالات. عاش الفارابي معظم حياته في بغداد، وتوجه بعدها إلى مصر ومن ثم استقر في دمشق حيث وافته المنية عام 950 ميلادي.