الحضارة والفخامة في العصر العباسي الثاني
يبدأ العصر العباسي الثاني مع خلافة الخليفة المتوكل في عام 232هـ ويستمر حتى عام 334هـ، عند تولي الخليفة المستكفي الحكم. ويُعتبر هذا العصر من الفترات التي شهدت فيها الخلافة العباسية تراجعًا ملحوظًا في قوتها السياسية، مما أفقدها هيبتها وتأثيرها.
أما من الناحية الاقتصادية، فكانت الأوضاع لا تقل سوءًا عن الحالة السياسية، حيث تجمع الثروات والنفوذ والسلطة في أيدي حفنة من الأفراد، هم الخلفاء والأمراء والتجار والعلماء والأدباء، بينما عانت الطبقات الأخرى من الشقاء واليأس، حتى أن الأغنياء لم يكونوا في مأمن إذا ما أثاروا غضب السلطان أو أحد معاونيه.
الأوضاع الاجتماعية خلال العصر العباسي الثاني
تأثرت الحالة الاجتماعية بشكل بالغ في هذا العصر، حيث لم يكن المجتمع كما كان في العصر العباسي الأول أو الفترات الأخرى من التاريخ الإسلامي، بل تم تقسيمه إلى ثلاث طبقات رئيسية كما يلي:
طبقة الخلفاء والوزراء والولاة
تشمل هذه الطبقة الأمراء وكبار رجال الدولة والتجار وأصحاب النفوذ. كانت تعيش هذه الطبقة في مستوى من الرفاهية لم تحظَ به باقي الطبقات، وكان الخليفة يحصل على إيرادات مالية ضخمة من الخراج المفروض على سكان العراق والبلدان التابعة.
طبقة رجال الجيش وموظفي الدولة والتجار
تأتي هذه الطبقة في المرتبة الثانية وتستفيد من امتيازات مادية ومعنوية عديدة، حيث كانت حياتهم تتمتع برغد بسبب العطاء الكافي من الخليفة والولاة.
طبقة العمال والفلاحين
تمثل هذه الطبقة القاعدة الشعبية التي عانت من الفقر والبؤس، ويشمل ذلك الرقيق والعبيد، بالإضافة إلى الطوائف الأخرى من أهل الذمة.
تجليات الترف في حياة الخلفاء والأمراء
تميز العصر العباسي الثاني بمظاهر فاخرة لا حصر لها، ومن أبرز تلك المظاهر:
زيادة إيرادات خزينة الدولة
كانت خزينة الدولة تتلقى أموالًا كبيرة من الخراج، حيث بلغت هذه الأموال في عام 240هـ حوالي 78 مليون درهم، وارتفعت في عام 280هـ إلى أكثر من 2 مليون و520 ألف دينار. وكان يتم صرف معظم هذه الأموال سنويًا، إذ تُذكر المصادر التاريخية أن نفقات قصر الخليفة والخدم قد بلغت حوالي 60 ألف دينار شهريًا، بينما كانت نفقات المطابخ والولائم تفوق عشرة آلاف دينار شهريًا.
وبالإضافة إلى هذه النفقات، كانت تُصرف مبالغ على أطقم الحراسة والسعاة والمدراء والموسيقيين، مما جعل إجمالي نفقات دار الخلافة تصل إلى 3 ملايين و500 ألف دينار سنويًا.
بناء القصور الفاخرة
تميزت قصور الخلفاء والأمراء بفخامة لا تُصدق، حيث أُشير إلى أن الخليفة المتوكل أنفق مبالغ هائلة في إنشاء القصور. كانت هذه القصور تُبنى وفق طراز خاص، مع ثلاثة أبواب كبيرة تؤدي إلى مجلس الخليفة، الذي كان يضم خزائن للكسوة ومشروبات مختلفة.
غالباً ما كان الخليفة يبدأ ببناء قصر جديد فور الانتهاء من آخر، وقد بلغ عدد القصور التي بُنيت في عهده حوالي 20 قصر بنفقات تزيد عن 274 مليون درهم.
أُلهمت هذه القصور الكثير من الشعراء، حيث وصف ابن المعتز قصر الثريا للخليفة المعتضد، قائلاً فيه:
حللْت «الثريا» خير دارٍ ومنزل
فلا زال معمورًا وبورك من قصر
فليس له فيما بنى الناس مشبهٌ
ولا ما بناه الجنُّ في سالف الدهر
جنانٌ وأشجار تلاقت غصونها
فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفًا
تَنَقَّلُ من وكرٍ لهن إلى وكر
مظاهر البذخ داخل القصور
لم تقتصر نفقات الدولة على بناء القصور فقط، بل كانت الحياة داخل هذه القصور تعبر عن مستوى فخم ورائع. إذ يُذكر أن قصر البرج، الذي بناه الخليفة المتوكل، كان مليئًا بالذهب والفضة، فضلاً عن المفروشات التي كانت مُغطاة بأوراق من الفضة.
كما احتوى القصر على شجرة ذهبية مزينة بالطبيعة، بالإضافة إلى تماثيل من الحيوانات والنسور، حيث بلغت نفقات قصر واحد حوالي مليون و700 ألف دينار، مما يجعل الخلفاء والأمراء يتنافسون في هذا المجال.
انتشار الرقيق والجواري والخدم
من الأمور الدالة على فخامة العصر العباسي الثاني، كانت ظاهرة الرقيق والجواري والخدم من الغلمان، الذين كانوا يجلبون من مختلف أنحاء العالم. ومع أن الإسلام حصر الرق على أسرى الحرب، إلا أن تجارة الرقيق ازدهرت في هذه الفترة حتى أُقيمت أسواق خاصة لها، تراقبها سلطات مختصة.
وفي هذا السياق، يُقال إن الخليفة المتوكل كان يمتلك نحو أربعة آلاف جارية، بينما وصف الخطيب البغدادي قصر المقتدر بأنه كان يحوي على أحد عشر ألف خادم من الغلمان، وهو مثال على الترف الذي كان منتشرًا في بغداد.