المديح
استمر شعراء المديح خلال العصر العباسي في محاكاة شعراء العصر القديم، حيث كانوا يبدؤون قصائدهم بالوقوف على الأطلال والتعبير عن حزنهم على الآثار المنقرضة. كما حرصوا على تسليط الضوء على الفضائل العربية والإسلامية في تصوير الممدوح من الشجاعة، والكرم، وحماية الجار، والوفاء، والحلم، والحزم، وإباء الضيم، ورصانة العقل، إضافة إلى القيم الدينية.
إلا أن شعراء هذا العصر، مع التزامهم بالمثالية الكلاسيكية للمديح، أضافوا بُعداً جديداً يتمثل في مفهوم العدل، حيث صوّروا الممدوحين باعتبارهم حكاماً أمناء مخلصين يسعون جاهدين لتحقيق العدالة بين رعاياهم. ومن النماذج على ذلك ما قاله البحتري في مدح المتوكل:
خَلَقَ اللَهُ جَعفَراً قَيِّمَ الدُنـ
يا سَدادَن وَقَيِّمَ الدينِ رُشدا
أَكرَمُ الناسُ شيمَةً وَأَتَمُّ النا
سِ خَلقاً وَأَكثَرُ الناسِ رِفدا
الوصف
أضاف الشعراء العباسيون عناصر جديدة إلى جوانبهم التقليدية في الشعر الوصفي، كوصف الرحلات، والدواب، والمعارك، من خلال استلهام مظاهر جديدة تعكس بيئتهم الحضارية. وقد تناولوا وصف الربيع في إطار الحديث عن الخمر، كما قاموا بوصف القصور، والمدن، والمناسبات، والأعياد، مجسدين هذه الأبعاد بالكثير من المعاني والصور الدقيقة. وعُدّت أشعارهم سِجلًا تاريخيًا يعكس حياتهم وعصرهم. ومن النماذج الشعرية في الوصف قول البحتري:
فَاِشرَب عَلى زَهرِ الرِياضِ يَشوبُهُ
زَهرُ الخُدودِ وَزَهرَةُ الصَهباءِ
مِن قَهوَةٍ تُنسي الهُمومَ وَتَبعَثُ ال
شَوقَ الَّذي قَد ضَلَّ في الأَحشاءِ
الهجاء
بلغ الهجاء في هذا العصر ذروته، حيث بدأ الشعراء العباسيون في كتابة العديد من القصائد التي تهجو الخلفاء والوزراء وغيرهم. استخدموا في هجائهم معاني التحقير والتنقيص لإبراز سخرية واحتقار المهجوه. وقد برع ابن الرومي في هذا الفن، حيث كان لديه القدرة على توجيه سهام الانتقاص بحق المغضوب عليه، كما يظهر في قوله في وصف شخص بخيل:
يُقتّر عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلو يستطيع لتقتيره
تَنفَّس من منخرٍ واحدِ
عذرناه أيام إعدامه
فما عذرُ ذي بَخَلٍ واجِدِ
رَضِيتُ لتفريق أمواله
يَدَي وارثٍ ليس بالحامدِ
الفخر
عُرف الفخر قديماً بجاذبيته الكبيرة، حيث كانت الصور والمعاني والألفاظ المؤثرة تنبع من العصبية القبلية، والفخر بأبناء القبيلة الواحدة. ومع ذلك، تراجع شعور العصبية في بداية العصر الإسلامي واستمر بالتلاشي في العصر العباسي، رغم بروز لمحات من ذلك في أشعار بعض الشعراء بشكل خافت. ومن الأبيات القليلة التي تعبر عن الفخر، ما قاله ابن المعتز في افتخاره على أبناء عمومته العلويين بشأن الخلافة:
لا أَشرَبُ الماءَ إِلّا وَهوَ مُنجَرِدٌ
مِنَ القَذى وَلِغَيري الشَوبُ وَالرَنِقُ
عَزمي حُسامٌ وَقَلبي لا يُخالِفُهُ
إِذا تَخاصَمَ عَزمُ المَرءِ وَالفَرَقُ
مَيتُ السَرائِرِ ضَحّاكٌ عَلى حَنَقٍ
ما دامَ يَعجَزُ عَن أَعدائِيَ الحَنَقُ
الرثاء
شهدت قصائد الرثاء في هذا العصر تطوراً ملحوظاً، حيث لم يمر موت خليفة أو قائد أو وزير دون أن يخلد الشعراء ذكراهم برثاء مؤثر. كانوا يحاولون من خلال ذلك تقديم العزاء لأنفسهم بأن الموت هو مصير لا مفر منه، وأن جميع البشر يعيشون لفترة محدودة. ومثال على ذلك ما قاله ابن المعتز في رثائه:
أَلَستَ تَرى مَوتَ العُلى وَالمَحامِدِ
وَكَيفَ دَفَنّا الخَلقَ في قَبرِ واحِدِ
وَلِلدَهرِ أَيّامٌ تُسيءُ عَواقِباً
وَتُحسِنُ إِن أَحسَنَّ غَيرَ عَوامِدِ
كما برز موضوع جديد في الشعر العربي يتمثل في رثاء المدن، حيث قام ابن الرومي برثاء مدينة البصرة بعد الهجمات الزنجية التي تعرضت لها، قائلاً:
ذادَ عن مُقْلِتي لذيذَ المنامِ ::: شُغلها عنهُ بالدموعِ السجامِ
أيُّ نومِ من بعد ما حل بالبصْـ
ـرَةِ من تلكمُ الهناتِ العظام
أيُّ نومٍ من بعد ما انتهك الزّنْـ
ـجُ جهاراً محارمَ الإسلام
إنَّ هذا من الأمورِ لأمْرٌ
كاد أن لا يقومَ في الأوهام
لرأينا مُسْتَيْقظين أموراً
حسبُنا أن تكونَ رُؤيا منام
أقدم الخائنُ اللعينُ عليها
وعلى الله أيَّما إقدام
وتسمَّى بغير حقٍّ إماماً
لا هدى اللَّهُ سعيَه من إمام
كما ظهرت في العصر العباسي موضوعات رثائية جديدة، تشمل رثاء الحيوانات المدللة، مثل مرثية ابن العلاف في هرٍ له، حيث يعبر عن حزنه لفقدانه بقوله:
يا هر فارقتنا ولم تعد
وكنت منا بمنزل الولدِ
وكيف ننفك عن هواك وقد
كنت لنا عدة من العدد
تمنع عنا الاذى وتحرسنا
بالغيب من حية ومن جود
وتخرج الفأر من مكانها
ما بين مفتوحها الى السدد