نبذة عن الأصمعي
الأصمعي هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب، وُلِد في مدينة البصرة بالعراق عام 122هـ/740م. نشأ في بيئة تشهد الاضطراب، مما دفعه للانخراط في طلب العلم بشغف ونشاط في البصرة. تتلمذ على يد كبار العلماء مثل الخليل، وأبو عمرو، وعيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء. سرعان ما حصل على مكانة مرموقة بين أقرانه، حيث أصبح شيخًا من علماء اللغة في عصره، ودرس على يديه الكثير من الطلبة، من بينهم: أبو الفضل الرياشي، وأبو عبيد، وأبو هاشم السجستان، وأبو سعيد السكري.
تميز الأصمعي بذاكرة حادة وقدرة فائقة على استحضار المعلومات، وبرز كعالم في الأنساب والتاريخ الأدبي واللغوي. بلغت شهرته إلى هارون الرشيد في بغداد، الذي استدعاه ليكون مؤدبًا لأبنه الأمير. تبوأ الأصمعي مكانة عالية في بلاط الخليفة بفضل معرفته العميقة وتأثيره في الحياة الفكرية. بعد فترة، عاد إلى البصرة مثقلًا بالإنجازات والثروات التي حققها، حيث أمضى ما تبقى من حياته في مدينته. ترك خلفه العديد من المؤلفات القيمة، بما في ذلك مخطوطات محفوظة في مكتبات بغداد، وأبرز مؤلفاته: كتاب الفرس، وكتاب الأراجيز، وكتاب الميسّر.
تكوين الأصمعي العلمي
درس الأصمعي اللغة العربية في مدرسة البصرة التي أنشأها أبو عمرو بن العلاء، وكان من أبرز طلابها. برع في مجالات اللغة والنحو والشعر، وتشبع بمختلف الموضوعات النحوية. كان ينافس كبار الشعراء والعلماء في المجالس الثقافية. كما أبدع في مجالات العلوم الطبيعية وعلم الحيوان وعلم النبات، وترك ما يقارب الستين مؤلفًا في مجالات علمية متنوعة.
أصل لقب الأصمعي
يُعتقد أن لقب الأصمعي يعود إلى جده “أصمع”، والذي يعني القلب المتيقظ. تعددت التفسيرات حول معنى الأصمع، حيث يُقال إنه يعبر عن النقاء والذكاء، ويدل على قدرة الفهم والذكاء. كما يُطلق على الرجل الذي تكون أذناه صغيرتين ومتاخمتين لرأسه لقب الأصمع، والمرأة تُعرف بـ”صمعاء”، كما هو مُوَرد في كتابات الجاحظ.
الشعر لدى الأصمعي
الأصمعيات
الأصمعيات عبارة عن مجموعة مختارة من أجمل قصائد الشعر العربي الكلاسيكي التي جمعها الأصمعي. يُظهر أن بعض تلاميذه أو العلماء اللاحقين هم من أطلقوا عليها هذا الاسم للتمييز بينها وبين المجموعة المعروفة باسم “المفضليات”، التي جمعها المفضل الضبي. على الرغم من ذلك، فإن هناك تداخلًا بينهما، حيث أشار البعض لأبيات من المفضليات وكأنها جزء من الأصمعيات، مما يوحي بأن هذا الخلط قديم أو أن النسخ التي اطلع عليها القدماء كانت تختلف عن تلك المتاحة لنا اليوم. علماء مثل ابن قتيبة وأبو عبيدة ذكروا قصائد تُنسب إلى الأصمعي رغم غيابها في النسخ المطبوعة. تجدر الإشارة إلى أن الأصمعيات تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية الأدبية بعد المفضليات وفقًا للرأي العلمي.
تتميز الأصمعيات بجمعها لأجود القصائد العربية القديمة الجاهلية، وكذلك أشعار للمخضرمين والإسلاميين. اختار الأصمعي، المعروف بعزيمته على الحفظ وجودة اختياراته، قصائد لم ترد في المفضليات رغم كونها رائعة. من بين الشعراء الذين تم تضمين أشعارهم: دريد بن الصمة، وعروة بن الورد، وعمرو بن معد يكرب، ومهلهل بن ربيعة، وغيرها. بلغ عدد الشعراء في الأصمعيات اثنين وسبعين شاعر، واحتوت على اثنتين وتسعين قصيدة تمثل 1,439 بيتاً شعرياً. نُشرت الأصمعيات للمرة الأولى بواسطة المُستشرق وليم بن الورد في ليبزج بألمانيا عام 1902م، وتمت طباعتها لاحقًا بشكل محقق من قبل أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون.
معايير الفحولة الشعرية عند الأصمعي
يُعتبر الأصمعي أول من وضع معايير لتحديد ملامح الشاعر الفحل من خلال كتابه المعروف “فحولة الشعراء”. عندما سُئل من قبل أبي الحاتم السجستاني عن معنى الفحولة، أوضح أن ذلك يشير إلى مزية الشاعر مقارنةً بالآخرين كما يختلف الفحل عن الدواب. حصر الأصمعي الفحولة في مجالات معينة من الشعر، حيث صنّف الشعراء وفقًا لامتلاكهم لهذه الميزة، وكان حازمًا في أحكامه، مشددًا على ضرورة إغفال التعليل في حكمه، نظرًا لتأثره بالمزاج العام لعصره الذي يتميز بالارتجالية والانطباعية.
يمكن تلخيص معايير الفحولة لدى الأصمعي في النقاط التالية:
- جودة الشعر: تعني عنده الابتعاد عن التعابير الغريبة أو الوحشية والتركيز على جودة المعاني.
- الزمن: يعتبر فقط شعراء الجاهلية من الفحول، حيث صرح بأنه لو كانت هناك فحولية للفرزدق والأخطل مثلما لو كانوا في الجاهلية، لما اعتبرهم كذلك.
- كثرة الشعر: تعني القدرة على إنتاج عدد كبير من القصائد ذات الجودة العالية؛ حيث اعتبر أن خمسة قصائد كافية لتعزيز فحولة الشاعر.
- تأثير شعراء المرحلة المبكرة: كانت أشعار الأولين معايير للفحولة، إذ تميز شعرهم بوجود الصور الغريبة والمهام الموصوفة، وفق روايات القيرواني.
- تنوع الوزن والقافية: القدرة على نظم الشعر على كل الأوزان والحصول على القوافي المختلفة يُعتبر نقطة قوية لصالح الشاعر.
- جودة النعت: يجب على الشاعر أن يمتاز بحسن الوصف.
- الرواية: للشاعر الفحل دورٌ في رواية أشعار العرب ومعرفة الأخبار لتوظيفها في شعره.
قصيدة صوت صفير البلبل
برز الأصمعي بقصيدة مشهورة ألقاها في بلاط الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي اشترط أن يتمكن الشاعر من إلقاء قصيدة يصعب عليه حفظها. كان يغتنم الأصمعي الفرصة، وارتدى زي الأعراب، وتوجه ليعرض قصيدته، حاثًا الخليفة على أن تكون جديدة. تُعتبر قصيدته “صوت صفير البلبل” واحدة من أبرز ما تركه، وقد كانت تتضمن:
صَوتُ صَفِيرِ البُلبُلِ
هَيَّجَ قَلبِي التَمِلِ
الماءُ وَالزَهرُ مَعاً
مَع زَهرِ لَحظِ المُقَلِ
وَأنتَ يا سَيِّدَ لِي
وَسَيِّدِي وَمَولى لِي
فَكَم فَكَم تَيَمَّنِي
غُزَيِّلٌ عَقَيقَلي
قَطَّفتَهُ مِن وَجنَةٍ
مِن لَثمِ وَردِ الخَجَل
فـــــــقال لا لا لا لا لا
وقــــــــد غدا مهرولي
والخُـــــوذ مالت طربا
من فعل هـــذا الرجلي
فــــــــولولت وولولت
ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــــي
وبيني اللؤلؤ لــــــــــي
قالت له حين كـــــــذا
انهض وجــــــد بالنقلي
وفتية سقــــــــــــونني
قـــــــــهوة كالعسل لي
شممـــــــــــتها بأنافي
أزكـــــــى من القرنفلي
في وســط بستان حلي
بالزهر والســـــرور لي
والعـــود دندن دنا لي
والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب
طب طبطب طبطب طب لي
والسقف سق سق سق لي
والرقص قد طاب لي
شـوى شـوى وشــــاهش
على ورق ســـفرجلي
وغرد القمري يصـــــيح
ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا
علــــى حمار اهزلي
يمشي علــــــــــــى ثلاثة
كمـــــشية العرنجلي
والناس ترجــــــــم جملي
في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع
خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا
من خشـــية العقنقلي
إلى لقاء مــــــــــــــــلك
مــــــــــعظم مبجلي
يأمر لي بخـــــــــــــلعة
حمـــراء كالدم دملي
اجــــــــــــر فيها ماشيا
مبغــــــــــددا للذيلي
انا الأديب الألمــعي من
حي ارض الموصلي
نظمت قطــــعا زخرفت
يعجز عنها الأدبو لي
أقول في مطلعــــــــــها
صوت صفير البلبلي
بعد أن أنهى الأصمعي قصيدته، استدعى الخليفة غلامه وجاريته على أمل أن يكون أحدهم قد التقط القصيدة. في نهاية المطاف، قال الخليفة: “أحضر ما كتبتها عليه فنزنه، ونعطيك وزنه ذهبًا”. فأجاب الأصمعي بأنه ورث عمود رخام كتب عليه القصيدة، وأفاد أن العمود يزن ما لا يمكن لحمله إلا عشرة جنود. بعد الوزن، أخبر الوزير الخليفة أن الشاعر المتنكر هو الأصمعي، وعندما استُخرج اسمه من بين الشعراء في بلاط الخليفة، قال الأخير: “أأفعل ذلك بأمير المؤمنين يا أصمعي؟”، وكان جواب الأصمعي: “قد قطعت رزق الشّعراء بفعلتك هذه”. طلب الخليفة بعد ذلك من الشعراء الحصول على مقابل مقابل أقوالهم، ومن ثم استجاب لطلبه.
المؤلفات التي تركها الأصمعي
خلف الأصمعي إرثًا نسخيًا غنيًا من المؤلفات، من أبرزها:
- كتاب خلق الإنسان.
- كتاب الأجناس.
- كتاب الهمز.
- كتاب الوحوش أو الوحش.
- كتاب فعل وأفعال.
- كتاب أصول الكلام.
- كتاب معاني الشعر.
- كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه.
- كتاب غريب الحديث.
- كتاب السرج واللجام والنعال والشوى.
آراء النقاد في الأصمعي
أشاد الكثيرون بذكاء الأصمعي ومعرفته الواسعة، من بينهم:
- أشار سفيان الثوري إلى قول ابن مناذر عن الأصمعي “بأنه أحفظ الناس”.
- قال الأزهري: “كان أكثر علمه على لسانه”.
- شهد تلميذ الأصمعي إسحاق الموصلي بأنه “أعجب من قرب لسانه من قلبه وإجادة حفظه متى أراده”.
- نقل الأخفش: “لم أدرك أحداً أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي”.
- مدح أبو الطيب اللغوي الأصمعي بقوله: “كان أتقن القوم للغة وأعلمهم بالشعر”.
- ذكر السيوطي أن الأصمعي “كان من أعلم الناس في فنه”، وذكر ابن المرزباني “وكان الأصمعي من أروى الناس للرجز”.
- شهد الشافعي بصدقه في اللغة والرأي، حيث قال: “ما عبّر أحدٌ عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي”.
- قال أبو داود: “صدوق وكان يتَّقي أن يفسر الحديث كما يتقي أن يفسر القرآن”.
- أشار المبرد إلى أن الأصمعي كان بحرًا في اللغة ولا يُعرف مثله فيها، وبكثرة الرواية.
- قال ابن كثير عن الأصمعي: “أحد أئمة اللغة والنحو، والغريب والأخبار، والملح والنوادر”.
- قال محمد بن الأعرابي: “شهدت الأصمعي وقد أنشد نحو مئتي بيت، ما فيها بيت عرفناه”.
- نقل ابن معين عن الأصمعي أنه كان من أعلم الناس في فنه.
الرحيل
توفي الأصمعي في البصرة، وفقًا للإجماع بين المؤرخين، باستثناء ابن خلكان الذي ذكر أنه توفي في مدينة مرو. تاريخ وفاته مختلف فيه، فقد روى السّيرافي عن أبي العيناء أنه توفي في البصرة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وصلى عليه الفضل بن إسحاق. بينما بعض المصادر الأخرى تذكر توفيه في سنوات مختلفة، مثل سبع عشرة ومئتين أو ستة عشر. كما أشار الخطيب البغدادي إلى أنه توفي في السنة السادسة عشر ومئتين، وذكر محمد بن يحيى النديم أن جنازة الأصمعي كانت في عام خمسة عشرة ومئتين، حيث هناك من يقول إنه توفي في صفر من السنة السادسة عشر. والأمر المؤكد هو أن عمره حينئذٍ كان واحدًا وتسعين عامًا، وهو الرأي الذي يتمتع بوجود مرجعية موثوقة.