التناص في قصيدة البكاء أمام زرقاء اليمامة

التناص في قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”

تتضمن قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” عدة أشكال من التناص، وفيما يلي نظرة تفصيلية على الأنواع المختلفة من التناص التي تظهر في هذه القصيدة:

التناص الأسطوري في القصيدة

عند التفحص في هذه القصيدة، يتبين أن الشاعر يستحضر تناصًا له بُعد أسطوري، وذلك من خلال استدعاء مفهوم العرّافة المقدسة، التي كانت تُمثل عنصراً مهماً في المجتمعات الوثنية القديمة. وقد تجلت أهمية العرّافة في تلك الثقافات باعتبارها حلقة الوصل بين الآلهة والبشر، مما منحها مكانة كبيرة كممثل للإله في الأرض.

يحمل هذا التناص دلالة أسلوبية عميقة، إذ يُعاني الشاعر من أزمة وجوديه نتيجة فقدان الأرض والبلاد، وهو ما أدّى إلى انعدام ثقته في أي شيء، خاصةً في واقعه المتهاوي. لذلك نجد الشاعر يتوجه إلى العرّافة بحثاً عن رؤى للمستقبل وفهم أسراره، سعياً وراء تحقيق رغبته الملحة في اكتشاف إمكانية حدوث نصر عربي.

أيتها العرافة المقدَّسة،

جئتُ إليك، مثخناً بالطعنات والدماء،

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة،

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاء.

يستحضر الشاعر كذلك بيتاً شعرياً مجهول القائل، ولربما كان هدفه من ذلك هو خدمة المعنى الذي يشير إلى أن التاريخ والتراث العربي، سواء كان أسطوريًا أو واقعيًا، يعاد تكراره دون أخذ العبرة أو الموعظة. ويتمثل ذلك فيما يقوله الشاعر:

تكلمي أيتها النبية المقدسة،

تكلمي.. تكلمي..

فها أنا على التراب، سائلاً دمي،

وهو ظمئٌ يطلب المزيد،

أسائل الصمت الذي يخنقني:

“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!

هل تحمل الجندلاً أم حديداً؟!”

فمن يا ترى سيصدقني؟

أسائل الركَّع والسجود،

أسائل القيود:

“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!”

“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!”

إن التدقيق في الأبيات السابقة يكشف أن الشاعر يستحضر ويُكرِّر تساؤله “ما للجمال مشيُها وئيدا”. وهذه العبارة تأتي لتعبّر عن استغرابه من تهاون العرب وانعدام همتهم للدفاع عن أرضهم ومصيرهم، ووصفهم بالجمال المتثاقلة التي تسير ببطء شديد، مما يعكس عمق المعنى المطلوب.

التناص التراثي التاريخي

أما بالنسبة للتناص التراثي، فإنه يمثل الركيزة الأساسية في هذه القصيدة، حيث يستحضر الشاعر شخصية زرقاء اليمامة التي تُعتبر واحدة من الشخصيات الجدلية في التراث العربي. هذه الفتاة، التي عاشت في منطقة اليمامة، كانت معروفة برؤيتها الخارقة التي تمكنها من رؤية ما يحدث على بعد ثلاثة أيام عن موقعها.

على الرغم من قوة بصر زرقاء اليمامة وسمعتها بين قومها، إلا أنها في أحد الأيام رصدت غابة تتحرك وسط الصحراء، مما أدى إلى اتهام قومها لها بالجنون، ورغم تحذيراتها، جاء ذلك الجيش الذي كان يتخفى بشجر الغابة ويهاجم بلاد اليمامة بشكل مفاجئ، مما أدى إلى فقدان زرقاء اليمامة لبصرها، كما يتضح في قوله:

أيتها العرافة المقدسة،

ماذا تفيد الكلمات البائسة؟

قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار،

فاتهموا عينيك بالبوار!

قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار،

فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!

وحين فوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا،

والتمسوا النجاة والفرار!

في هذا السياق، نجد الشاعر يقيم مقارنة غير ظاهرة بين حالة العرب بعد حرب النكسة وحالة العرب في زمن زرقاء اليمامة، حيث يُظهر كيف كان الشعب العربي يستصغر الخطر، ويُعاقب مَن يُنذرهم بحدوثه، حتى يرتكب الحدث، والشخص المُنذِر هو أول من يُعاقَب، كما حدث مع شاعرنا وزرقاء اليمامة.

ونلمس أيضًا التناص التاريخي من خلال استحضار شخصية تاريخية أخرى، وهي شخصية عنترة بن شداد العبسي. حيث يشير الشاعر إلى مرحلة حياته الأولى التي كانت تتسم بالعبودية والرعي، وكيف استُنفِر للقتال أثناء الحرب، ليعود مجددًا إلى حياة العبودية. وحالة المناضل العربي تُشبه هذه الحكاية، فهو مُستعبد رغم أهليته للحرية وحقه في القتال والدفاع، كما يتضح من قوله:

قيل لي “اخرس”،

فخرستُ وعميت، وائتممتُ بالخصيان!

ظللتُ في عبيد (عبس) أحرس القطعان،

أجتزُّ صوفها،

أردُّ نوقها،

أنام في حظائر النسيان،

طعامي: الكسرةُ والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسة،

وها أنا في ساعة الطعان،

ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان،

دُعيت للميدان!

أنا الذي ما ذقتُ لحم الضأن،

أنا الذي لا حول لي أو شأن،

أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،

أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *