التورية في النصوص القرآنية: دراسة للبلاغة والمعاني المخفية

التورية في القرآن الكريم

التورية في اللغة تعني الستر والخفاء، وفي الاصطلاح الأدبي تُعتبر نوعًا من أنواع البلاغة والمحسنات البديعية، حيث يُستخدم لفظ يحمل معنيين: معنى (قريب) يتبادر إلى الذهن عند القراءة الأولى، ومعنى (بعيد) يتطلب تأملاً وتفكيرًا أعمق ويكون هو المعنى المقصود لدى الكاتب. ومن الأمثلة على التورية التي وردت في القرآن الكريم:

  • قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

المعنى القريب لكلمة “جرحتم” هنا هو الجرح الجسدي، بينما المعنى المقصود هو جرح النفس بالخطيئة والذنب.

  • قال الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}.

يمكن أن يتبادر إلى الذهن أن المقصود هو النجوم التي في السماء ساجدة بين يدي الله. ولكن المعنى الحقيقي هنا هو النبات الصغير الذي لا ساق له، والذي يُحتمل أنه يشير إلى الأعشاب في الأرض، بينما “الشجر” يُعبر عن جمع الأشجار، وهي معلومة عن نجم وسجدته.

  • قال الله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.

المعنى الظاهر هو زكريا وهو يصلي في المحراب، لكن التفسير الأعمق هو أن سيدنا زكريا كان يتأمل في أمر الولد ويدعو الله -عز وجل- ليمنحه يحيى، وهو ما أراده الله في هذه الآية.

  • قال الله تعالى: {يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.

المقصود بالكتاب هو التوراة، ولكن التورية هنا تأتي من كلمة “قوة”، حيث يُفهم من المعنى القريب الحفاظ على التوراة، بينما المعنى الأعمق هو ضرورة فهم معانيها وتعاليمها وإيصالها إلى بني إسرائيل، فقد أوتي يحيى الحكم وهو في سن صغيرة.

  • قال الله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}.

المعنى الظاهر من كلمة “رضوان” يمكن أن يُفسر على أنه رضوان خازن الجنة، ولكن المعنى المقصود هو رضا الله -عز وجل-، حيث يبشرهم برحمته ورضاه، وهذا الفهم ناتج عن حقيقة ذكر الجنان بعد اسم رضوان.

  • قال الله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.

تحتوي كلمة “ربه” على معنيين، حيث يمكن أن يفهم بسهولة كأن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله، لكن المعنى المقصود هو السجين الذي ضيع فرصة إخبار الملك عن يوسف. الآية تحمل تورية تعتمد على يوسف و”ربه”.

أنواع التورية في القرآن الكريم

تتنوع التورية في القرآن الكريم إلى عدة أنواع، وهي كما يلي:

التورية المجردة

وهي النوع الذي لا يُذكر فيه المعنى القريب أو لوازم المعنى البعيد، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}، حيث تعني “استوى” الاستقرار، لكنها تعني في العمق الاستيلاء أو الحكم، ولم تُذكر أي من اللوازم.

التورية المرشحة

هي تورية يظهر فيها المعنى القريب، وسميت مرشحة لأنها تتعلق بالمعنى القريب، مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}. حيث يُفهم من كلمة “أيد” أن الله قد بنى السماء بأكثر من يد، وهذا ليس المعنى المقصود، بل الهدف هو التأكيد على عظمة الله.

التورية المبيّنة

وهي التورية التي تذكر فيها أحد لوازم المعنى البعيد قبل أو بعد اللفظ، مثل قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا}. فالمعنى القريب هنا هو خلود الأولاد، لكن المعنى البعيد يشير إلى الأقراط، حيث يُفهم أن “مخلدون” يحمل أحد لوازم المعنى البعيد.

التورية المهيّأة

هي التورية التي تعتمد على الكلمات السابقة أو اللاحقة، أو تحدث في لفظين مرتبطين، كما في قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}، حيث تشير “الجنة” إلى المعنى القريب في حين أن المعنى البعيد يتناول بيوت المؤمنين في الجنة.

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *