تُعتبر بلاد الأندلس منبعًا خصبًا لشعر الطبيعة، حيث تعد الطبيعة عنصرًا أساسيًا في العديد من الأعمال الأدبية، وقد أسهمت في تشكيل المعالم العامة للأدب البشري منذ العصور القديمة.
أهداف دراسة العلاقة بين الأندلس وشعر الطبيعة
تستهدف هذه الدراسة، المعتمدة على المنهج الوصفي التحليلي، استعراض الإبداعات الأندلسية في مجال شعر الطبيعة، حيث تتميز بخصائص فريدة تميزها عن الأعمال الأدبية في الشرق.
يتراوح الشعور بالطبيعة عند الأندلسيين بين الذاتية والموضوعية، إذ يقوم الشاعر أحيانًا بوصف الطبيعة كأنها لوحة تُرسم من مسافة بعيدة، دون أن يغوص في عمق تفاصيلها.
تعكس كتاباتهم مشاعرهم وعواطفهم، حيث يمزجون بين أحاسيسهم ومظاهر الطبيعة المحيطة بهم.
شعر الطبيعة
شعر الطبيعة هو ذلك الشعر الذي يستلهم من عناصر الطبيعة الحية والصامتة ليكون موضوعه الأساسي، وله جذور عميقة في التاريخ.
ظهر هذا النوع من الشعر في معظم الأعمال الأدبية عبر العصور، إذ وجد الشاعر في الطبيعة مجالاً خصبًا لخياله ورؤية عميقة لأفكاره.
استلهم الشعراء من الطبيعة لتصوير مشاعرهم، معبرين عن جمال الأزاهير، وانسياب الجداول، وتلألؤ الندى، وهدوء الظلال، في كلمات خالدة وصور مبدعة.
شعر الطبيعة في الأندلس
- احتلت الطبيعة حيزًا شاسعًا في الإنتاج الشعري الأندلسي، حيث قام الشعراء بتجسيد جمال الطبيعة بكثير من الإبداع والشغف، متفوقين على نظرائهم في الشرق في الكم والجودة، وكانوا الأكثر براعة في التصوير والتجديد.
- أصلًا، تتميز طبيعة الأندلس بسحر وجمال فريد، حيث تعبر عن نفسها عبر جبال خضراء، وسهول واسعة، وحدائق زاهية، وجداول وأنهار جارية.
- لذا، أصبح الشعر الأندلسي مرآة تعكس بحق جمال الأندلس وسحر بتفاصيله الطبيعية.
في قول محمد بن سفر، أحد شعراء القرن السادس الهجري
- في أرض أندلسٍ تلتذ نعماء .. ولا يفارق فيها القلب سراء
وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها .. وكل روضٍ بها في الوشي صنعاء
أنهارها فضة والمسك تربتها .. والخز روضتها والدر حصباء
النزعة الذاتية في وصف الطبيعة
الذاتية تشير إلى الأحاسيس الخاصة بالفرد أو العقل المفكر. في كثير من الأحيان، استخدم شعراء الأندلس الطبيعة كبوابة تعبر عن مشاعرهم وعواطفهم.
لقد اندمجوا مع جمال الطبيعة، معبرين عن حالاتهم النفسية من خلال مشاهدها الراقية. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن خفاجة في وصف الجبل.
يقول ابن خفاجة في وصف الجبل:
- وقور على ظهر الفلاة كأنه .. طوال الليالي ناظرٌ مفكر في العواقب
أصخت إليه وهو أخرص صامت .. فحدثني ليل السري بالعجائب
وقال ألا كم كنت ملجأ قاتلٍ .. وموطن أواهٍ تبتل تائب
وكم مرّ بي من مدلجٍ ومؤدبٍ .. وقال بظلي من معطي وراكب
تظهر الطبيعة تأثيرها الواضح في مختلف الأغراض الشعرية؛ حيث نجد الشعراء في مدحهم أو عشقهم يستخدمن الطبيعة كمصدر للإلهام والمشاعر.
كما استلهموا من طبيعة الكآبة والظلام، فاستخدموا صفاتها لتعبر عن أفكارهم المحزنة ومآسيهم الخاصة.
نصيب الرياض من الشعر الأندلسي
- حظيت الرياض بنصيب وافر من الاهتمام الأدبي؛ حيث وصف الشعراء ما تكتنفه من أشجار خضراء وأزهار ملونة.
- كما تحدثوا عن جداول مائية صافية، وأزهار تتفتح برائحة عطرة، وطيور تغني فوق أغصانها.
- كل هذه المعاني تم تصويرها في عبارات بليغة وألفاظ عذبة، مع موسيقى تتدفق كما ينسياب المياه.
- في قصائدهم، لجأ الشعراء إلى استخدام التشبيه والاستعارة، مما أغنى أسلوبهم الفني.
- التشخيص، الذي يُعتبر أحد أشكال الاستعارة، كان طريقة شائعة بين الشعراء في تصوير جمال الطبيعة.
- إن الصور التي دُرست في شعرهم تكشف عن مشاعرهم الحقيقية تجاه محبوبتهم، وتظهر تفاعلاتهم مع كل ما هو حي أو جامد حولهم.
- كما نرى ابن خفاجة يتغنى بالحدائق الخلابة، مشبهاً إياها بوجه محبوبته.
يقول ابن خافجة:
- سقيًا ليومٍ قد أنخت بسرحةٍ .. ريًا تلاعبها الشمال فتلعب
سكري يغنيها الحمام فتنثني .. طربًا ويسقيها الغمام فتشرب
نلهو فترتفع للشبيبة راية .. فيه ويطلع للبهارة كوكب
والروض وجه أزهرٌ والظل فر .. عٌ أسودٌ والماء ثغرٌ أشنب
في حيث أطربنا الحمام عشيةً .. فغدا يغنّينا الحمام المطرب
ما يلفت النظر في شعر الطبيعة عند الأندلسيين
- يلاحظ في شعر الأندلسيين أن وصفهم للطبيعة غالباً ما يتجاوز مجرد التصوير، ليعكس مشاعرهم الداخلية من خلال تفاعلهم معها.
- وهناك أيضًا مقاطع شعرية أخرى تتضمن وصف الأزهار، مثل الياسمين والسوسن.
- على سبيل المثال، يتحدث ابن خافجة عن زهرة الخيري بصورة غزلية راقية، حيث يجري حديثًا رومانسيًا مع النسيم في ظلام الليل.
يقول ابن خافجة:
- وخيريةٍ بين النسيم وبينها .. حديثٌ إذا جن الظلام يطيب
لها نَفَسٌ يسري مع الليل عاطرٌ .. كأن له سرًا هناك يريب
يدِبَّ مع الإمساء حتى كأنما .. له خلف أستار الظالم حبيب
ويخفي مع الإصباح كأنما .. يظل عليه للصباح رقيب
نجد أيضًا ابن سهل الأندلسي يلقي نظرة شاعرية على زهرة الخيري، متخيلًا إياها كغزالٍ لطيف يتزين للليل، ويختبئ عند بزوغ الصباح خجلاً.
- خيريها يخفي شميم نسيمه .. لنهاره ويبيحه الإظلاما
فكأنما ظن الدُجُنَّة نفحةً .. فبدا يعارض عرفها البسّاما
أو كالكعاب تبرجت لخليلها .. في الليل وارتقبت له الإلماما
فإذا رأت وجه الصباح تستّرت .. خوفًا وصيرت الجفون كماما
النزعة الموضوعية في وصف الطبيعة
- تشير النزعة الموضوعية إلى الوصف المباشر للطبيعة، حيث يناقش الشاعر جمال الطبيعة دون أن يتداخل في تفاصيل العواطف الشخصية.
- المعتمد بن عباد يظهر جمال الياسمين بشكل موضوعي، مما يبرز المنظر الطبيعي بوضوح.
يقول المعتمد بن عباد:
- وياسمينٍ حسنٍ المنظر .. يفوق في المرأى وفي المَخبَرِ
كأنه من فوق أغصانه .. دراهمٌ في مطرفٍ أخضر