الخنساء
تُعرف الخنساء باسم تماضر بنت عمرو السّلمية (575م – 24 هـ / 645م)، حيث كانت شاعرة مُخضرمة وصاحبةُ ماضٍ عريق من نجد، عاصرت كل من الجاهلية والإسلام وأسلمت فيما بعد. تُعرف الخنساء برثائها المؤثر لأخويها صخر ومعاوية، اللذين قُتلا أثناء الجاهلية، مما أكسبها شهرة كبيرة، وقد أُطلقت عليها لقب “الخنساء” بسبب شكل أنفها.
تُسلط صفحات التاريخ الضوء على جانب من حياة الخنساء، حيث تظهر علاقتها القوية مع أخويها، حيث لم تُثنِها الأحداث المتتابعة عن ذكر أحداث حياتها. ومن أبرز تلك الأحداث الحادثة التي حاول فيها معاوية أن يُجبرها على الزواج من صديق له يُدعى دُريد، فلجأت إلى أخيها صخر لتطلب مساعدته، واستجابةً لرغبتها، تم حلّ الموقف. وجدت الخنساء نفسها في موقف آخر حين تسببت مشاكل زوجها عبد العُزّى في ضائقة مالية، ولم تجد ملجأً سواه، وبدوره أظهر لها كرمًا غير محدود، حيث قسم ثروته نصفين وترك لها الخيار، حتى اعترضت زوجته على تصرفه هذا.
شهدت الخنساء يوماً مأساوياً في أيام عكاظ، حيث تمنت لو توقف الزمن عند لحظة معينة، ولكن لم يكن في طيات حياتها شيء أكثر شؤماً من ذلك اليوم، حين ألقى معاوية بن عمرو نظرة إعجاب على أسماء، حيث تمردت عليه وقالت له: “أما علمت أني عند سيد العرب (هاشم بن حرملة الغطفاني)؟”، لكن ذلك لم يُخفف من رغبة معاوية، مما أدى إلى تصعيد الأوضاع.
وبينما انطلق معاوية ليتحدى قدره، كان الكسل والخوف هما ما أعاقاه. رغم تحذيرات صخر، أراد معاوية الانتقام للثأر وسط مشاعر متناقضة وموقف صعب بين رغبته في القتال وخوف أصدقائه. وأخيراً، كانت النهاية غير متوقعة، حيث نجح هاشم وأخوه دريد في ملاقاة معاوية في المعركة. ورغم أنهم اعتقدوا أنهم عوضوه بالثأر، كانت ردة فعل صخر مختلفة تماماً، فذهب ليسأل عن قاتل أخيه.
استمر الصراع حتى وصل الأمر إلى أن حصل صخر على جرح قاتل، ولم يخرج من آرائه رغم معاناته. وقد عاش صخر في حالة ألم طويلة، مما أخاف أسرته، ولكنه لم يفقد إيمانه بالله. انتهت حياته المؤلمة في سنة 615م بعد أن فقد كل عزيز لديه، بينما مات معاوية قبله ثلاث سنوات. وقد كانت دائمًا في قلب الخنساء مصاعب تفوق تحمّلها، فارقتهم جميعًا ولم تحتمل فقدان هذين الأخوين كما لم تحتمل فقدان والدها، حيث انقضت على قبره واضعةً كل أحزانها وتلاواتها.
الخنساء وأخواها
لاحظ العديد من الدارسين أن مراثي الخنساء لصخر كانت وفيرة، ولكن مراثيها لمعاوية كانت أقل عدداً. في الواقع، الشعر الذي كتبته عن معاوية ليس قليلاً بحد ذاته، لكن قلة عدد القصائد مقارنة بأخيها صخر قد تعود إلى الصدمة المفاجئة التي أصابتها، بالإضافة إلى ما كانت تعكسه من مشاعر خوف على صخر. كان الرثاء أسلوبًا يعكس مشاعر الطبائع العربية التي كانت لا تحبذ البكاء على من قُتل في المعركة. لذلك، كان رثاؤها يعكس قيم الشجاعة ومكانتهم في المجتمع.
ونجد في هذا السياق أن الخنساء لم تتحدث عن معاناتها كثيرًا في قصائدها عن معاوية، ولكن لو نظرنا إلى مراثي العرب بشكل عام فسنجدها تتعامل مع موتهم بشكل يبرز فضائلهم. حيث تذكر الخنساء أن صخر كان زعيمًا وشجاعًا بينما كانت تعبر عن اندهاشها من وجود أمثال معاوية.
هناك مقاطع من الشعر تُظهر لنا حزنها الشديد، حيث تعبر عن مشاعر الفقد بطريقة عميقة، وكما قيل عنها، فإن موت صخر كان بمثابة انطلاق لشاعرة العرب، حيث استخدمت شعرها كوسيلة للتعبير عن آلامها نفسها. وقد أظهرت الخنساء عن أذهانها التي تشتعل قتامة انتقلت إلى أن تُجري ذاكرتها طقوس الحزن على الأراحم وهذا ما جعلها متفرّدة في إبداعها.
الخنساء والرثاء
عندما سُئلت الخنساء عن كيفية وصف أخويها، وُصف صخر بالزمن القاسي، ومكان جراح المعركة، بينما تم وصم معاوية بأنه القائل الفاعل. أجابت بوضوح للمقارنة بينهم. ولم تكن إجاباتها مجرد كلمات، فهي كانت تحمل بين طياتها مشاعر عميقة. وعندما عاد الحديث عن موت صخر، تفاعلت مشاعرها نحو المستقبل، فرثاءها لأخويها كان تعبيراً صادقاً عن المأساة.
لم تكن هناك امرأة قادرة على التعبير عن مشاعر الخسارة الكبيرة بجلاء قدر الخنساء، وتبعًا لذلك، أخذت تعبر مرة بعد مرة عن أوجاعها في الشعر، حتى أحيت الذكرى في الأسواق ومجالس العرب. استطاعت أن تُعبر عن مشاعر الحزن في العديد من أبياتها وبأسلوب فني وهي تسرد صفات الفقد بشكل يجسد لوعة القلوب.
كان شعرها في تجسيد الأحزان حلقة وصلة تعبر عن انتفاضة الذكريات، فحين كانت ترثي، كانت تتابع ما يجعلك تشعر بأن القلوب لا تزال تحتفظ بكل هذا الحزن. ولذا، من العدل القول إن الخنساء كانت تمثل نموذجًا للإبداع العربي في الرثاء، حيث عبرت بطريقة تجمع بين الصبر والفن في كلماتها، مما جعلها من أبرز الشاعرات في التاريخ.