الزهد والتصوف في المجتمع العباسي
على الرغم من أن حياة الطبقات العليا في المجتمع العباسي اتسمت بالترف والملذّات، فقد كان العامة يمثلون مجتمعا إسلاميا يتسم بأخلاق المسلمين ومروءة العرب. لم يكن لهذه الفئات معرفة بالترف وما يجره من اللهو وشرب الخمر، بل كانت تعكس حياة تحض على الإيمان والتقوى، وتستاء من الزنادقة والملاحدة.
رغم شيوع دور الخمر والمجون، فقد برزت حركات الوعظ والزهد في المساجد، وانطلقت طائفة من الفقهاء والمحدثين الذين اختاروا حياة الزهد والتقشف. منهم من عاش حياة فقر وعبادة، مكتفين بخدمة الدين، ورفضوا الانغماس في الترف الذي انتشر في عصرهم، وأثروا بشكل ملحوظ على العامة.
من أبرز هؤلاء الزهاد كان إبراهيم بن إسحق الحربي، الذي ابتعد عن لذائذ الدنيا، ورفض قبول أي أجور من أمير أو سلطان لقاء رواية الحديث، حيث عاش حياة من الزهد والتقشف. ومن المعروف أنه رفض عشرة آلاف درهم أرسلها له الخليفة العباسي المعتضد.
أنواع الزهاد والمتصوفة
تشكلت نمطان من الزهد والتصوف في هذا العصر، هما كما يلي:
الزهاد الحقيقيون
امتثل هؤلاء الزهاد لأسلوب زهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان زهدهم متجذراً في تعاليم الإسلام، ولم يفارقوا سنته. منهم الحارث المحاسبي الذي استلهم زهده من كتاب الله وسنة نبيه، مشدداً على قيمة محاسبة النفس وضرورة عدم الاعتماد على التوكل كعذر للتقاعس.
المتصوفة
أدخلت هذه الطائفة بعض عناصر من ديانات أخرى، خصوصاً من الديانات الشرقية، حيث بدأوا يتحدثون عن التصوف بأسلوبهم الخاص، مكونين مصطلحات خاصة تعبر عن مفاهيمهم. وعلى الرغم من عدم الابتعاد عن التعاليم الإسلامية في البداية، إلا أن التصوف بدأ يظهر عليه بعض الانحرافات، كما لدى الحلاج.
ويعتبر ذو النون المصري من أشهر المتصوفة في هذا العصر، وكان معاصراً للحارث المحاسبي، حيث كان رائداً في الحديث عن المقامات والأحوال الصوفية. ورغم التزامه بعقيدة الإسلام، إلا أنه تميز بعدم اتباعه طريقة الزهد المحمدي، حيث أثار موضوع علم الباطن في التصوف الذي اعتبر حكراً على خواص الناس.
أفكار التصوف ورموزه في هذا العصر
برزت في هذا العصر أفكار جديدة ومصطلحات تتعلق بالتصوف، ومن أبرزها:
- تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أقسام:
عرف ذو النون المصري أن المعرفة تنقسم إلى ما يفهمه عامة المسلمين، إلى ما يُدركه العلماء، ثم هناك المعرفة الخاصة بالصوفية، حيث يراها على أنها معرفة قلبية بخلاف المعرفة العقلية التي يتمتع بها العلماء.
- التأكيد على أن التصوف معرفة باطنية:
لذا، يعتبر التصوف خاصاً بأفراد معينين وليس متاحاً للجميع، كما أشار ذو النون المصري.
- التطرق إلى الأحوال والمقامات:
كان هذا الموضوع بمبادرة من ذو النون المصري، تبعه السري السقطي الذي أسهم في إشاعة هذه الأفكار في بغداد.
- مفهوم الفناء في الذات الإلهية:
إلى جانب مفهوم السكر والعشق الإلهي، والتي أضافها البسطامي إلى التصوف، وهي أفكار متضاربة مع الشريعة الإسلامية.
- فكرة الملامة:
التي تعني أن المتصوف يظهر للناس كأنه مذنب لكي لا يكتشفوا حقيقة تصوفهم، مما تحقق فكرة ذو النون بأن التصوف خاص بخواص الناس. وقد قدم حمدون القصار النيسابوري هذه الفكرة كبداية لإسقاط الفرائض عن المتصوفة.
- القول بولاية شيخ المتصوفة:
طرحها محمد بن علي بن الحسن، واستنتج أن الولاية لها ختم كما الأنبياء، وأنها تفوق النبوة، إلى جانب العديد من الأفكار والشطحات الأخرى.
نماذج من شعر الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني
نستعرض نماذج من شعر الزهد والتصوف في العصر العباسي الثاني:
- يقول ابن الرومي موضحاً وقفة الزاهد أمام ربه:
بات يدعو الواحدا الصمدا
في ظلام الليل منفردا
خادم لم تُبْقِ خدمتُه
منه لا رُوحاً ولا جَسدا
قد جفتْ عيناه غمْضَهما
والخليُّ القلب قد رقدا
في حشاه من مخافته
حُرُقاتٌ تلْذع الكبِدا
لو تراه وهو منتصب
مُشْعِرٌ أجفانَه السُّهُدا
كلما مَرَّ الوعيدُ به
سحَّ دمعُ العين فاطَّردا
ووهت أركانه جزعاً
وارتقت أنفاسه صُعُدا
قائلٌ يا منتهى أملي
نجِّني مما أخاف غدا
أنا عبدٌ غرّني أملي
وكأنَّ الموتَ قد وردا
وخطيئاتي التي سلفتْ
لستُ أحصي بعضَها عددا
- ويقول الحلاج، أحد أبرز شعراء التصوف الذين تداخلت أفكارهم مع الديانات الشرقية:
سُبحانَ مَن أَظهَرَ ناسوتُهُ
سِرَّ سَنا لا هَوَتهِ الثاقِبِ
ثُمَّ بَدا في خَلقِهِ ظاهِراً
في صورَةِ الآكِلِ وَالشارِبِ
حَتّى لَقَد عايَنَهُ خَلقُهُ
كَلَحظَةِ الحاجِبِ بِالحاجِبِ