تحليل البنية السردية لرواية “موسم الهجرة إلى الشمال”

الزّمن في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

يعتبر الزمن وسيطًا أساسيًا لحدوث الأحداث وترابطها، فلا يمكن تصور أي حدث دون الأخذ في الاعتبار عنصر الزمن. في رواية “موسم الهجرة إلى الشّمال”، يبرز الزمن الداخلي، المعروف أيضًا بالزمن النفسي أو الوجداني، كعنصر حاكم. على سبيل المثال، الفترة التي قضى فيها الراوي (حسنة بنت محمود) تعكس الزمن الذي اكتشف فيه مشاعره تجاهها.

من ناحية أخرى، يمثل الزمن الخارجي الأحداث الجغرافية للرواية، حيث يصبح محور التركيز من البداية حتى النهاية. تبدأ السرد من الوطن الأصلي (السودان) حيث نشأ الراوي، ثم ينتقل إلى زمن الغربة في القاهرة، مرورًا بلندن حيث تتنوع الثقافات وتختلف الهويات، قبل أن يعود أخيرًا إلى قريته في السودان التي تُعتبر زمن سرد الأحداث.

أما فيما يتعلق بزمن السرد والخطاب، فإن الرواية لا تحمل دلالة واضحة عن الزمن. تُعرض الأحداث وفقًا لتيار الوعي، مما يشير إلى أن الزمن الرئيسي الذي يهيمن هو الزمن الماضي، حيث تُروى معظم الأحداث من خلال استرجاع الذكريات المتأثرة بالشخصيات ونفسياتهم. وهذا يجعل الذكريات الماضية تؤثر على الحاضر وتحدد نمطًا خاصًا يمكن أن يرتبط بالمستقبل.

يمكن أن يتجلى الزمن الماضي في الرواية من خلال طريقتين:

  • الطريقة الأولى: تكرار الألفاظ والعبارات، كما يتضح في المثال: “حياني بأدبه الجم كعادته”.
  • الطريقة الثانية: استخدام الأفعال المضارعة والفعل الماضي الناقص في النص السردي للدلالة على الديمومة والاستمرار، مما يجعل الفعل المضارع يعبر عن الماضي الذي يستمر حتى الحاضر. فعلى سبيل المثال:

“لم يغب عني أدبه الجم، فأهل بلدنا لا يبالون بعبارات المجاملة. يدخلون في الموضوع دفعة واحدة، يزورونك ظهراً أو عصراً، لا يهمهم تقديم المعاذير”.

تقنيات الزمن في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

استفاد الروائي من تقنيات تسريع السرد وإبطائه بما يتناسب مع الحالة النفسية للشخصية ودورها. في بعض الأحيان، يكون السرد سريعًا مثل الوقت الذي قضاه الراوي مع (حسنة بنت محمود) حيث استغرق حوالي أربع ساعات. رغم أنه من غير المنطقي أن يستغرق الحوار هذه الفترة، إلا أن الجانب العاطفي يجعل القارئ يشعر بمرور الزمن السريع، كما جاء في قول الراوي:

“وفكرت في عدّة أشياء أقولها، ولكنني ما لبثت أن سمعت المؤذن ينادي: ((الله أكبر. الله أكبر)) لصلاة العشاء”.

وفي أوقات أخرى، يكون السرد بطيئًا، ويتضح ذلك من خلال استخدام تقنيات سردية متعددة والرجوع المتكرر إلى الماضي، مما يجعل الزمن الماضي يؤثر بشكل كبير على مصير الشخصيات. هذا الأمر يعمق توصيف الشخصيات والأحداث، مما يولد شعورًا بوجود ثقل زمني أثناء القراءة، كما يتضح من قول الراوي:

“كانت بنت مجذوب امرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء، ما يزال فيها إلى الآن وهي تقارب السبعين بقايا جمال”.

المفارقات الزمنية في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تظهر المفارقات الزمنية في الرواية بشكل واضح من خلال استخدام الاستباق والاسترجاع كما هو موضح أدناه:

  • الاسترجاع:

يتم الاسترجاع في الرواية بطريقتين: إما أن يتجاوز الراوي مستوى السرد السابق ليعود إلى ذكر بعض الأحداث الماضية لإكمال القصة، أو أن يخرج الاسترجاع عن وظيفته ليعمق الحدث الحاضر من خلال ربطه بحدث تاريخي. على سبيل المثال:

“إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس”.

  • الاستبقاء:

لا تلتزم الرواية بعرض الأحداث بشكل متسلسل. بل تقدم وحوش غامضة تكشف رموزًا لأحداث مستقبلية ستحدث، أي أن الاستبقاء يحدث بشكل رمزي. ينتقل النص من السرد المباشر إلى الاستعارة أو التشبيه أو التمثيل، كما حدث حين ذكر مصطفى سعيد بعد انخراطه في الأحداث، بقوله:

“النيل، ذلك الإله الأفعى، قد فاز بضحية جديدة. المدينة قد تحولت إلى امرأة”.

المكان في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تعتبر القرية الموطن الأصلي (السودان) محور الأحداث في الرواية، رغم انتشار الأماكن المختلفة التي تشمل القاهرة وقرية السودان. إلا أن الأحداث تُروى بشكل رئيسي من خلال استرجاع الذكريات المرتبطة بالمكان الرئيس، حيث تشير القرية هنا إلى الهوية والملجأ، ويمثل بداية الحياة ونهايتها.

الفضاءات المغلقة في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تتضمن الفضاءات المغلقة أماكن الإقامة التي تمنح الشعور بالأمان والراحة بعيدًا عن ضغوط الحياة. تمثل هذه الأماكن الحدود المكانيّة التي تعزل الأفراد عن العالم الخارجي، وتظهر هذه الفضاءات الضيقة في الرواية كما في المثال:

“وجاءت أمي تحمل الشاي. وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء. وجاءت أختي. وجاء أخواي، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث”.

تشمل الأماكن المغلقة في الرواية:

  • البيت
  • الغرفة
  • السّجن
  • المسجد
  • الصّندوق

الفضاءات المفتوحة في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

الأماكن المفتوحة تمثل مساحات تعزز الحركة والحرية، حيث تتعلق بالفضاء الخارجي حيث الطبيعة. تقدم هذه الأماكن تفسيرات ودلالات عميقة حول جوهر الرواية وما ترتبط به:

“وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت. أسمع طائرًا يغرد، أو كلباً ينبح، أو صوت فأس في الحطب- وأحس بالاستقرار”.

تمتاز الفضاءات المفتوحة في الرواية بما يلي:

  • المقهى
  • الشّوارع والطّرقات
  • القرية
  • الحي
  • المدينة
  • الغابة

الزمكان في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

يمثل الزمكان، المعروف باسم “الكرونوتوب” حسب مفهوم “باختين”، ذلك التداخل بين الزمان والمكان كنظام يتجسد ماديًا وذاتيًا في النص السردي. وتظهر هذه العلاقة في الرواية بشكل واضح في حياة مصطفى سعيد عبر مراحله الأربعة.

بينما لا يركز صالح في رواياته على تحديد الزمان والمكان بشكل رئيسي، بل يعتمد على الذاكرة، إلا أنه يظهر أحيانًا كعنصر لترتيب الأحداث، من خلال السرد والتقدم في القصة والواقع.

“أدرت المفتاح في الباب فانفتح دون مشقة. استقبلتني رطوبة من الداخل ورائحة مثل ذكرى قديمة. إنني أعرف هذه الرائحة. رائحة الصندل والند. وتحسست الطريق بأطراف أصابعي على الحيطان”.

الشخصيات في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تعد الشخصية عنصرًا أساسيًا في بناء الأحداث، حيث تسهم في إيصال فكرة معينة. تتسم رواية “موسم الهجرة إلى الشّمال” بأنها رمزية، مما يعني أن الشخصيات تحمل ضمنها سمات تعكس رؤية الروائي، لتتضح من خلال بطلين رئيسيين هما مصطفى سعيد والراوي.

يمثل كل من مصطفى سعيد والراوي رمزًا للثقافة المنفتحة تجاه الغرب والبحث عن الهوية. “قطع مصطفى سعيد مرحلة التعليم في السودان قفزاً- كان بالفعل كأنه يسابق الزمن. بينما ظللنا نحن في كلية غردون، أُرسل هو في بعثة إلى القاهرة ثم إلى لندن، ليكون أول سوداني يُرسل إلى الخارج. أُعتبر ابن الإنجليز المدلل”.

تؤكد الشخصيات الثانوية على الجوانب الواقعية في الرواية، حيث تكشف عن ملامح المجتمع من خلال أعمالهم اليومية. تمتاز الشخصيات الثانوية بتوازنها بين العالم الرمزي والعالم الواقعي.

تشمل الشخصيات الثانوية المختلفة وتبرز رمزيّاتها كما يلي:

  • السيدة روبنسن: ترمز إلى الاحترام المتبادل بين الشرق والغرب.

تمثل السيد “روبنسن” الجانب الإيجابي من العلاقة مع الحضارة الغربية، كما يتضح في قول الراوي عندما شعر برائحتها: “في تلك اللحظة، وأنا واقف على رصيف المحطة، وسط دوامة من الأصوات، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي”.

  • العشيقات الأوروبيات: رمز للعدو الشمالي وحضارة الغرب، كما تجسد “جين موريس” أسوأ جوانب تلك الحضارة.

تعتبر والدة مصطفى سعيد وزوجته حسنة بنت محمود رموزًا للوطن والهوية. “ونبع من جوف الظلام صوت لم يكن صوتها، صوت مجرد، يقول: (كان المحامون يتصارعون على جثتي. لم أكن أنا المهم بل كانت القضية هي المهمة)”.

  • الجد (الحاج أحمد): رمز للتراث الأصيل.
  • عبد الكريم، وود الريِّس: يرمزان إلى التخلف والرجعية.
  • الأطفال: رمز للمستقبل.

لغة السرد في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تتضمن لغات السرد تقنيات متعددة مثل تيار الوعي والمونولوج والوصف، مما أثرى السرد بتنوع عناصره. بدأت الرواية بأسلوب الحكاية الشعبية، وجاء تضافر هذه العناصر لخلق تباين في المعلومات مثل القصائد التي تعكس تجارب الحرب العالمية الأولى.

يميل السرد إلى الاسترجاع والتذكر للماضي مما يعكس الفجوة بين الماضي والحاضر: “تعودت أذناي على أصواتهم”، مما يبرز الاحساس بالزمن ومكانته في الحياة.

الرؤية السردية في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال

تظهر في الرواية نمط الرؤية السردية المصاحبة حيث يندمج الراوي والمؤلف. يروي السرد من وجهة نظر الضمير الأول (أنا)، مما يشكل علاقة بين الراوي والبطل، ويستخدم أسلوبًا يربط الأحداث ببعضها البعض.

الرواية تعكس معرفة عميقة للراوي بالأحداث مما يجعل لديه تسلطًا على الحبكة، ويظهر التشابه بين الراوي والبطل مما يضفي عمقًا وغموضًا على الأحداث.

في النهاية، تؤخر القصة اللحظة الحاسمة، وتجعل القارئ يتحكم في تأويل النهاية، مثلما يتضح من قول الراوي: “وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي”.

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *