تعريف شرع من قبلنا
يُعرف شرع من قبلنا بأنه مجموعة الأحكام التي تم نقلها إلينا من قوانين الأمم السابقة، والتي كانت مُكلّفة بها من قِبَل الله -تعالى-. تُعتبر هذه الأحكام جزءاً من شريعته، وقد تجدها في كتاب الله -تعالى- أو في سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- التي طبقت على الأمم التي سبقت، علماً بأنها لم تُذكر كشرع خاص بنا، أو أنها لم تُنسخ من شريعتنا.
حجية شرع من قبلنا
تنقسم الآراء حول حجية شرع من قبلنا بين الفقهاء. حيث يرى الحنفية والمالكية والإمام أحمد وبعض من الشافعية، بالإضافة إلى ابن تيمية وابن الحاجب أن شرع من قبلنا يُعتبر حجّة ومرجعاً للاستدلال، ويُعتمد عليه في إثبات الأحكام الشرعية والعمل بها، إذا وُجد الدليل على هذا الشرع من خلال الوحي، سواء كان في القرآن أو السنة الصحيحة، طالما لم يتم التصريح بتكليفنا به أو تنفيذه.
وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه بعدة براهين، من أبرزها:
- حكم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في قصة الربيع بنت النضر المتعلقة بالقصاص.
كما جاء في الحديث الشريف: (كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وهِيَ عَمَّةُ أنَسِ بنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الأنْصَارِ، فَطَلَبَ القَوْمُ القِصَاصَ، فأتَوُا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأمَرَ النبيُّ به، فقالَ أنَسُ بنُ النَّضْرِ: لا واللَّهِ، لا تُكْسَرُ سِنُّهَا يا رَسولَ اللَّـهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أنَسُ، كِتَابُ اللَّـهِ القِصَاصُ).
ولا نجد في القرآن دليلاً يناقض ذلك سوى ما هو موجود في التوراة، حيث قال -تعالى-: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)، وهذا يتضح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قضى بشرع من سبقونا، ولو لم يكن شرعاً لنا لما قضى به.
- حكم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في وجوب قضاء الصلاة المنسية.
قال الله -تعالى-: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). وقد خُصَّ هذا الخطاب لموسى -عليه السلام-، وعمل به النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما فات وقت صلاة الفجر أثناء وجوده مع أصحابه.
فخرجوا وصلّى بهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، واستدل بتلك الآية، ولو لم يكن شرع من قبلنا من ضمن ما كُلِّفنا به لما اعتمد عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-.
أنواع شرع من قبلنا وحكم الاحتجاج بها
هناك عدة أنواع لشرع من قبلنا، وكل نوع منها له حكمه الخاص، ويمكن توضيحها كما يلي:
أحكام شرعت لمن قبلنا وشرعت لنا
وهو النوع الذي يتعلق بالأحكام الشرعية التي نُفذت للأمم السابقة، وأثبتها القرآن أو السنة لنا، كما جاء في قوله -تعالى- بخصوص الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
من المهم الالتزام بهذا النوع، وجوباً، وقيام الحجة عليه بالنص الشرعي، حيث إن الإسلام يُعتبر دين جميع الأنبياء. وقد أشار الإمام البخاري في صحيحه إلى أن دين الأنبياء واحد في بابٍ خاص.
أحكام شرعت لمن قبلنا وتم نسخها
يتعلق هذا النوع بالأحكام التي كانت موجودة في شرعة من سبقونا، ولكن جاء القرآن أو السنة لتوضيح نسخها بالنسبة لنا. وبهذا النوع تم الاتفاق على أنه ليس بشرع لنا، مثل بعض التشريعات التي كانت مفروضة على الأمم السابقة بشكل مُشدد.
يظهر ذلك في قوله -تعالى-: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)، وأيضاً قوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
كما أن الله -تعالى- خفف ما كان مُعَدّاً لأهل الكتاب في بعض التشريعات المشددة، وكذلك في التحية التي كانت مفروضة في زمن يوسف -عليه السلام- بالسجود، حيث وضح النبي -عليه الصلاة والسلام- نسخها بالأحاديث التي تبيّن حرمة السجود لغير الله -تعالى-.
أحكام شرعت لمن قبلنا ولم ترد في الكتاب والسنة
ويتعامل هذا النوع مع الأحكام التي وُجدت في شرع من قبلنا، ولكن لا يوجد ذكرٌ لها في شريعتنا، كالأحكام التي كانت موجودة عند أهل الكتاب والتي لم نعرف كيف نرد لها، ولم يوجد في شريعتنا ما يُبطلها. يجمع العلماء على أن هذا النوع ليس بشريعة لنا، والأمر فيه يعتمد على التحقق من ثبوت تشريعه من الله -تعالى-.
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (كانَ أهْلُ الكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَهَا بالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وقُولوا: (آمَنَّا باللَّهِ وما أُنزِلَ) [البقرة: 136]).
أحكام جاءت في الكتاب والسنة ولم يأت دليل على اعتبارها أو نسخها
يختص هذا النوع بالأحكام الموجودة في شرع من قبلنا، دون ورود دليل على اعتبارها أو نسخها في شريعتنا. وقد تعددت آراء الفقهاء حول اعتباره لنا من عدمه.
يرى جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والإمام أحمد وبعض الشافعية أنه يُعتبر شرعاً لنا، مستندين لعدة براهين، كقوله -تعالى-: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى).
كما يُعتبر الدين شاملاً للأصول والفروع؛ وأيضاً قال الله -تعالى- مخاطباً نبيه -عليه الصلاة والسلام-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)، وهذا يعني أن الأمر للنبي -عليه الصلاة والسلام- هو أمرٌ للأمة ما لم يُبين دليل خاص ينفي ذلك.
بينما يرى بعض الشافعية والحنابلة أنه ليس بشرعٍ لنا، مُستدلين بقوله -تعالى-: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
ويُقَدِّم المؤيدين لحجيته واعتباره شرعاً لنا استدلالاً بأن الله -تعالى- قد أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- باتباع شريعة الأنبياء الذين سبقوه، وبين أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو خارجٌ عن الملة بقوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).
وتُعتبر شريعة من قبلنا جزءاً مما أنزل الله -تعالى-، ومن الأدلة أيضاً ما ورد في القرآن حول أخبار الأمم السابقة ودعوة الاعتبار بهم.